لكي نفهم تأثير الإشعاعات على جسم الإنسان يجب أن نفهم طبيعة هذه الإشعاعات
وطبيعة أجسامنا. إن الكرة الأرضية قد أصبحت مليئة بمصادر التلوث الإشعاعي،
فخطوط التوتر العالي تقدر أطوالها بملايين الكيلومترات، والهوائيات التي
تبث ذبذبات راديوية تقدر بالملايين، إضافة إلى مليارات الهواتف المحمولة
وإلى عدد لا يحصى من الأدوات الكهربائية في المنازل التي تكوّن عند تشغيلها
حقولاً كهربائية ومغناطيسية، وقد أضيفت إلى اللائحة مؤخراً شبكات
"الساتلايت" لتزيد الطين بلة. كل هذا بات يشكل مصدراً خطيراً ودائماً
للتلوث الكهرومغناطيسي الذي يملأ معظم الأمكنة، ولو كانت الحقول
الكهرومغناطيسية تُرى بالعين المجردة لرأيناها تحيط بنا كما مياه البحار
بالأسماك السابحة. وربما كان التلوث الإشعاعي قد تخطى كل أنواع التلوث
الأخرى في خطورته، أو ربما كان في طريقه لكي يصبح مشكلة العصر في السنوات
المقبلة.
هل التلوث الكهرومغناطيسي مضر بصحة الإنسان؟
ربما من الأفضل أن نتساءل عن مدى خطورة هذا النوع من التلوث وليس عن وجوده،
لكنه سؤال مشروع من وجهة نظر السياسة والمال والتداخلات الاجتماعية، حيث
يدور حالياً صراع حاد على الصعيد العالمي، طرفاه أنصار البيئة من جهة
وأصحاب الشركات الصناعية من جهة ثانية، وبين هذين الطرفين ينشط أهل العلم
والسياسة ونشطاء الرأي العام. وفي حين ينكر أصحاب الشركات أن تكون الحقول
الكهرومغناطيسية مسؤولة عن أي ضرر صحي للإنسان يتهم أنصار البيئة أصحاب
الشركات النافذة بإخفاء الحقائق عن المواطنين كما يتهمونهم بالعمل على حرف
نتائج الأبحاث وملاحقة العلماء الذين يكشفون عن معلومات لا تعجبهم أو لا
تتناسب مع مصالحهم، ويوردون أمثلة كثيرة على ذلك.
المتمولون هم الفئة الأقدر في أغلب المجتمعات، الغربية منها على وجه
الخصوص. فهم الجهة التي تموّل غالبية الأبحاث العلمية المتعلقة بالتلوث
البيئي، والتي تملي شروطها على الباحثين وتتحكم بمسألة نشر النتائج او
إخفائها أو تحريفها في بعض الأحيان، وهي التي تمون على بعض المسؤولين أو
على الكثيرين منهم في كثير من الأحيان.
وثائق رسمية عالمية تؤكد الخطورة
لن ندخل هنا في تفاصيل الاتهامات والاتهامات المضادة، بل سوف نحصر حديثنا
ببعض الوثائق الرسمية الصادرة عن جهات مسؤولة في دول معروفة، لكي نبين مدى
الاعتراف الرسمي بخطورة التلوث الناتج عن الحقول الكهرومغناطيسية رغم النفي
المتكرر لتأثيره على الصحة. وسوف نورد فيما يلي بعض المعلومات المقتضبة
قبل التعليق عليها:
-تطلب السلطات الاسترالية من مستخدمي الهاتف الجوّال إبعاده عن الرأس
والجسد مسافة 25 ملم أثناء التخابر، لأن من شأن هذه المسافة الفاصلة، على
تواضعها، ان تخفف نسبة الإشعاعات التي يمتصها الرأس أو الجسد بنسبة 625
مرة.
-في دليل بعض الشركات، ومنها شركة البلاك بري، ينصح مستخدمو الهاتف الجوّال بإبعاده مسافة 0,98 إنشاً، أي حوالى 25 ملم عن الجسد.
-في سنة 1992 كلّف مجلس ولاية فيكتوريا في استراليا لجنة علمية لكي تعد
تقريراً عن علاقة الحقول الكهرومغناطيسية بصحة الإنسان، فنصحت هذه اللجنة
بتخفيض تعرض السكان لهذه الحقول وبإيجاد طريقة جديدة لتوزيع الطاقة تراعي
عدم تعريض السكان لحقول مغناطيسية عالية، كما نصحت بطمر الخطوط الناقلة
للكهرباء تحت الأرض.
-في سنة 1998 وضع المجلس الاسترالي للاتحادات التجارية سياسة للعمال لكي
لا يتعرضوا لحقل مغناطيسي يزيد متوسطه عن 2 ملليغوس 2 mg خلال ساعات العمل
الثماني.
-في سنة 2002 اضطرت شركة الكهرباء في كوينزلند الاسترالية تحت ضغط المجلس
البلدي، إلى تخفيض الحقل المغناطيسي الناتج عن محطتها إلى ما دون 4mg .
-في سنة 2006 قررت السلطات في ولاية أونتاريو الكندية التخلص من التلوث الناتج عن الخط الكهربائي المنفرد.
-في سنة 2008 أصدر مجلس مدينة تورنتو الكندية تقريراً يطالب فيه باختصار
التعرض للحقول الكهرومغناطيسية الناتجة عن خطوط التوتر العالي، وجاء في
التقرير ما حرفيته: "مع الأخذ في الاعتبار العلاقة بين التعرض للحقول
الكهرومغناطيسية ومرض اللوكيميا عند الأطفال، فإن اتخاذ إجراءات وقائية على
الأرض لتخفيف تعرض الأطفال هو إجراء متعقل".
-في سنة 2005 وضعت وزارة الإسكان في هولندا رقم 4 mg كحد أقصى للحقل
المغناطيسي في الأبنية الجديدة، علماً بأن المعيار الذي وضعته اللجنة
العالمية للحماية من الإشعاعات غير المؤينة (icntrp) المكلفة من منظمة
الصحة العالمية هو 2000 mg أي 0,2mt .
-تعتمد الدولة السويدية رقم 2 mgكحد آمن للحقل المغناطيسي وذلك كسياسة
رسمية لخططها المستقبلية، مما يعني ان كل الأطفال الجدد سوف لا يتعرضون
لحقل مغناطيسي يزيد عن 2mg .
-في ايرلندا يجب أن تكون خطوط التوتر العالي بعيدة عن المنازل بما لا يقل عن 22 متراً.
-تشجع الولايات المتحدة الأميركية على تخفيض الحقول المغناطيسية لكن بأقل
ما يمكن من الكلفة. ومع أنها تتبنى معيار لجنة (icntrp) أي (2000mg) فإنها
تحدد المعيار الآمن على تقاطع الطرق وبعض الأماكن الخاصة بـ (150mg) إلى
(200 mg ).
-مع ان سويسرا تتبنى معيار الـ icntrp فإنها قد وضعت حدوداً جديدة
"للاستعمالات الحساسة" مثل ملاعب الأطفال والغرف ذات الاستعمالات المهمة،
وهذه الحدود هي (10mg ).
-لا تسمح دولة اللوكسمبورغ بتشييد أبنية جديدة على مقربة من خطوط التوتر العالي.
-الدانمرك، ومنذ سنة 1993، لا تسمح بتشييد أبنية جديدة قرب خطوط التوتر
العالي ولا تسمح بمد خطوط توتر على مقربة من المنازل، لكنها لا تحدد
المسافة الآمنة.
-مع ان المعيار الآمن في إيطاليا هو معيارicntrp، فإنه ومنذ سنة 1998 قد
تقرر خفض هذا المعيار بالنسبة لمن يمضي أكثر من 4 ساعات يومياً في نفس
المكان إلى ما بين 30 mg و 100 mg علماً بأن بعض المناطق الإيطالية تخفض
هذا الحد إلى (2 mg) للأماكن التي يقضي فيها الإنسان أكثر من 4 ساعات مثل
المدارس، المنازل، المستشفيات ودور الحضانة.
-مع ان منظمة الصحة العالمية لا تشير إلى مخاطر الحقول الكهرومغناطيسية
وتأثيرها على صحة الإنسان فإنها تطالب بتوسيع الدراسات العلمية وتطالب
بالحد من تعريض الناس لهذه الحقول.
-بتاريخ 2 نيسان (ابريل) سنة 2009 أصدر البرلمان الأوروبي الذي يضم ممثلي
27 دولة تقريراً دعا فيه إلى الحد من تعرض السكان لخطر التلوث. ومن بين
التوجيهات التي جاءت في التقرير: ترك مسافة "معقولة" فاصلة بين خطوط التوتر
وبين المنازل القريبة، المدارس ومراكز العناية الطبية. كما طالب بتطوير
الدراسات التي تحدد المعايير الآمنة بالنسبة لخطوط التوتر العالي، كما طالب
بحماية العمال من خطر الحقول الكهرومغناطيسية وخاصة تلك الناتجة عن خطوط
التوتر العالي.
-في روسيا، حيث ارتفعت أول صرخة ضد التلوث الكهرومغناطيسي في خمسينيات
القرن الماضي، المعيار الآن هو 0,02mt أي أقل بعشر مرات من معيار icntrp.
مبررات الضجة
السؤال الأول الذي يطرح نفسه بعد هذا العرض هو ما سبب هذه الضجة وهذا
الاهتمام بالموضوع؟ فإذا لم تكن الحقول الكهرومغناطيسية، ومنها تلك الناتجة
عن خطوط التوتر العالي خطيرة على صحة الإنسان هل كانت لتُسَن كل هذه
القوانين ويتم وضع كل هذه القيود ويجري التسابق إلى ابعادها عن بيوت الناس
في كثير من الدول التي تحترم حقوق مواطنيها في الصحة والحياة؟
الكل مقتنع بأن التلوث الكهرومغناطيسي يشكل خطراً على صحة المواطنين، لكن
مجرد الاعتراف الرسمي بذلك من شأنه أن يفرض على الدولة اتخاذ إجراءات فورية
لا تستطيع تنفيذها دفعة واحدة، فالأكلاف عالية، وقد يعجز عنها الكثير من
الدول الغنية حتى. وقد يجد البعض مبررات للمسؤولين لتهربهم من الاعتراف
بخطورة الأمر أمام المواطنين، ونحن لن نعلق على هذه المسألة هنا، لكننا
نلاحظ أن المسؤولين في الدول الديموقراطية لا يتجرؤون على التصريح بأن هذه
الحقول آمنة لصحة الإنسان، حيث لا أحد منهم مستعد لتحمل تبعات مثل هذا
التصريح. المخرج الأسهل يجدونه في تحميل العلم مسؤولية التقصير: "العلم لم
يعط كلمة فاصلة في الموضوع، ولم يقل كلمته النهائية بعد"! فهل العلم هو
المقصر فعلاً؟ جوابي هو النفي طبعاً، فالعلم قال كلمته أكثر من مرة وأدخل
الكهرومغناطيسية في علم الأحياء. فالبيولوجيا المغناطيسية مثلا تدخل في
مناهج عدة جامعات، صحيح ان ما يسمى "بالحكم النهائي" للعلم لم يصدر بعد،
إلا ان العلم لا يصدر أحكاماً متسرعة ليتراجع عنها فيما بعد، وهو يحتاج إلى
وقت أطول لكي يشرح "ميكانيزم" التأثير داخل الجسم الحي، وهذا يتطلب فهماً
تفصيلياً كافياً لعلوم الأحياء نفسها مع ما فيها من خصوصيات. فالأجسام
البشرية تتمتع بالكثير من الخصوصيات، ومن المعروف أن هذه الأجسام لا تتفاعل
مع العقاقير الطبية مثلاً بنفس الطريقة فنسمع أحياناً أن تفاعل هذا الجسم
مع هذا الدواء أفضل من تفاعله مع غيره، ونعرف أن فئات الدم ليست نفسها عند
الجميع. وكما تسجل الاختلافات في فئات الدم فإن اختلافات معينة تسجل في
تفاعل الأجسام مع الكهرومغناطيسية. فهناك أجسام أقل تأثراً من غيرها بذلك.
إضافة إلى هذه الصعوبات، فإن صعوبات أخرى يعاني منها العلم في هذا المجال
مثل صعوبة إجراء التجارب حيث لا يمكن أن نخضع الإنسان لتأثير حقل مغناطيسي
لكي ندرس مدى تأثيره على جسمه لأن في ذلك خطراً على صحته. أما الاختبارات
التي تُجرى على الحيوانات، فإنها تؤكد التأثير والضرر. لكن تعميم
الاستنتاجات على حالة الإنسان يبقى دونه بعض الصعوبات.
يمكن الاستنتاج أن العلم قد أثبت تأثير الحقول الكهرومغناطيسية على جسم
الإنسان على المستوى النوعي ويبقى عليه ان يحدد المستوى الكمي. علماً بأن
الدراسات العلمية لم تعد تعتمد في أيامنا هذه على الفضول العلمي وحده بل
تحتاج إلى تمويل سخي للتجارب والدراسات وربما لم يكن هناك من مصلحة
للممولين في السخاء في سبيل هذا الهدف كما ذكرنا.
وإذا كانت الدراسات العلمية المعمقة التي ستصبح جزءاً من المناهج الجامعية
قد تأخرت بعض الشيء فليس معنى ذلك أن نرهن عملية حماية أجسامنا من خطر
التلوث بالإشعاعات الكهرومغناطيسية. بإنجاز هذه الدراسات، بل يجب ان نبحث
عن أفضل السبل لإبعاد الخطر عن صحة الناس كما تفعل الدول المتقدمة.
التوتر العالي: فوق أو تحت؟
قد لا تكون خطوط التوتر العالي هي الأكثر تلويثاً في بعض الأحيان إلا أن
الفوضى التي ترافق عملية مدّ الخطوط في الدول النامية وعدم تحديثها، وسوء
التعامل معها، ووجودها في كل الأماكن في شكلها المخيف، كلها عوامل تجعل
الأنظار مسلطة عليها باستمرار. فمن الصعب أن نرى في بلاد الغرب أسلاكاً
ناقلة للكهرباء تلامس أسطح المنازل أو تمر أمام شرفاتها في مناطق مكتظة
بالسكان. وباعتراف كل المراجع المختصة في كل البلدان فإن معايير علمية يجب
ان تحترم وإن مسافات فاصلة يجب ان لا يتم تجاوزها.
الخطوط الناقلة للكهرباء تكوّن حول نفسها حقلاً كهربائياً وآخر
مغناطيسياً. وإذا كانت هناك طرق معروفة للتخلص من تأثير الحقل الكهربائي
(بوضع العوازل الفاصلة أو بوضع الصفائح المعدنية المتصلة بالأرض بين المصدر
وجسم الإنسان) فإن الحقل المغناطيسي لا يمكن صدّه بواسطة العوائق. الطرق
المتبعة حتى الآن لمنع تأثيره، هي مدّ شبكات التوتر العالي تحت الأرض
بطريقة مدروسة (أو إبعادها). وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مدّ الشبكات تحت
الأرض بطريقة عشوائية قد يزيد من تأثير الحقل المغناطيسي بدل تخفيفه.
السرّ يكمن في مدّ الخطوط الموجبة الثلاثة إضافة إلى الخط السالب في نفس
الكابل بحيث تعطل الحقول المغناطيسية المتولدة بعضها بعضاً. وهناك كابلات
حديثة لكنها غالية الثمن نسبياً توزع الأسلاك (تحت الأرض) بطريقة يضعف فيها
الحقل المغناطيسي إلى آخر الحدود. ومن المهم أن يتم إجراء قياسات دورية
للحقول المتولدة بعد ان توضع الشبكة في الخدمة.
ومن المهم أن يتم إجراء قياسات دورية في المنازل والمدارس والجامعات
والتجمعات السكنية، وأن يصبح الاهتمام بالسلامة العامة والخاصة عادة
وعرفاً.
إن الثقافة البيئية تعطي المواطن سلاحاً معرفياً يساعده على حماية نفسه من
الأخطار غير المنظورة، وفي المقابل فإن أية محاولة تعمية تزيده خوفاً
وتدفعه إلى توتر غير مبرر أحياناً، فهي بذلك لا تحل أية مشكلة بل تعقد
الأمور.
*صاحب كتاب "التلوث الكهرومغناطيسي وصحة الانسان"