أخرج البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال Sad كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب ) .
وفي رواية للبخاري : ( ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد ، فيستهل صارخا من مس الشيطان ، غير مريم وابنها . . . . . . ) ، وفي رواية مسلم : ( ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه ) .
وقد
تعرض هذا الحديث للانتقاد من قبل البعض قديماً وحديثاً ، حيث نسجوا حوله
العديد من الشبه والشكوك التي توجب رده وعدم قبوله بزعمهم ، فادعى " أبو
رية " بأنه من الإسرائيليات لأنه يقتضي تفضيل نبي الله عيسى على نبينا محمد عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ، ولذلك اتكأ عليه بعض القسس من النصارى لإثبات عقيدة من عقائدهم الزائفة .
كما
أنه يقتضي أن الشيطان قد يسلط على الأنبياء والرسل حتى أولي العزم منهم ،
وعليه يكون نبينا - صلى الله عليه وسلم - ممّن طعن الشيطان في جنبيه ، كما
أنه قد يسلط على غيرهم من عباد الله المخلصين ، وهو ما ينفيه القرآن صراحة
، وذلك في قوله تعالى : {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }( الحجر42) ، وقوله :{إلا عبادك منهم المخلصين }(الحجر 40) .
ثم ما هو سر اختصاص عيسى عليه السلام وأمه بهذه الفضيلة دون سائر الناس حتى الأنبياء ، وقد استدل " أبو رية " على ذلك بكلام نقله عن الزمخشري ، و الرازي .
مع أن الحديث صحيح رواية ودراية ، أما من حيث النقل والسند فالحديث أخرجه البخاري و مسلم
وغيرهما من أئمة الحديث ، وتلقته الأمة بالقبول ، ولم يعرف من طعن فيه من
أئمة هذا الشأن ، وأما من حيث المتن والمعنى فليس في متنه أي معنى يدعو إلى
رده أو التوقف فيه ، كل ما هنالك أنه وُجد من توهم معنى فاسداً بحسب فهمه
فبادر إلى إنكاره أو التوقف في صحة الحديث ومن هؤلاء القاضي عبد الجبار المعتزلي ، و الزمخشري وإن كان الثاني تردد في صحة الحديث وحاول تأويله فقال : " إن صح هذا الحديث ، فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها
، فإنهما كانا معصومين ، وكذلك من كان في صفتهما ، لقوله تعالى : { إلا
عبادك منهم المخلصين} ، واستهلال الصبي صارخاً من مس الشيطان ، تخييل لطمعه
فيه ، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ، ويقول هذا ممن أغويه ، وأما صفة النخس
كما يتوهمه أهل الحشو فلا ، ولو ملك إبليس على الناس نخسهم لامتلأت الدنيا
صراخاً " أهـ .
وأهل العلم أجروا الحديث على ظاهره ، وقالوا بحقيقته ، وأن إبليس مُمَكَّنٌ من مس كل مولود عند ولادته ، وأنه حاول ذلك مع مريم وابنها فلم يمكن منهما استجابة لدعاء أم مريم حين قالت : {وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم }(آل عمران:36) .
وليس في إثبات هذه الخصوصية لعيسى وغيره
ما يعود بالنقص على بقية الأنبياء ، ولا ما يقتضي تفضيله عليهم ، لأن
الفضل الذي يعدُّ كمالاً تاماً للإنسان ، هو ما كـان بسعيه واجتهاده ، ومن
هنا كان فضل الخليلين إبراهيم و محمد عليهما
وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام ، وأما طعن الشيطان بيده فليس من شأنه
أن يثاب العبد على سلامته منه ، ولا أن يعاقب على وقوعه له ، وعلى التسليم
بأن هذه فضيلة لعيسى عليه السلام فنحن جميعاً نقر بأن المفضول قد يكون فيه من الخصائص والمزايا ما ليس للفاضل ، ولا يؤثر ذلك في أفضليته .
وأما إذا قلنا بأن الكلام هنا ليس على عمومه ، وأن المتكلم غير داخل في عموم كلامه - كما قال جمع من العلماء منهم الألوسي في تفسيره – فيكون نبينا عليه الصلاة والسلام ممن لم يمسه الشيطان أيضاً ، وقد اختار القاضي عياض - كما نقله عنه النووي - : أن جميع الأنبياء يتشاركون في هذه الخصيصة .
وأياً ما كان الأمر فليس في الحديث أبداً ما يقتضي تفضيل عيسى عليه
السلام على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم – تفضيلاً مطلقاً ، وكون بعض
القسس والرهبان اتكأوا على الحديث في إثبات عقيدة من عقائدهم الزائفة ، فلا
يعود ذلك على الحديث بالبطلان أو الرد ، والتبعة واللوم إنما تقع على من
حرَّف الحديث عن مواضعه ، وحمله على غير محامله الصحيحة .
ونحن
عندما نقول بظاهر الحديث ينبغي أن نفرق بين المس وبين الإغواء والإضلال ،
فلا يلزم من وقوع المس والنخس إضلال الممسوس وإغواؤه حتى يقال إن الحديث
معارض لقوله تعالى : {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }( الحجر42) ، وقوله :{إلا عبادك منهم المخلصين }(الحجر 40) ، لأنه يفيد عدم تسلط الشيطان على الأنبياء والمُخْلَصين .
فإن
الآية إنما تدل على عدم تسلطه عليهم بالإغواء والإضلال الدائم ، ومع ذلك
فقد يسلط على بعضهم بإغواء عارض ، أو إلحاق ضرر لا يؤثر على الدين ، وكم
تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والأذية .
وماذا يقول هذا المنكر فيما أثبته الله في كتابه عن نبي الله موسى عليه السلام وقوله بعد أن قتل القبطي : {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين * قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم }( القصص 15-16 ) ، ومن قبله أيوب حين نادى ربه {أني مسني الشيطان بنصب وعذاب }( صّ 41) ، وقول الله تعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- : {خذ
العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ
فاستعذ بالله إنه سميع عليم * إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان
تذكروا فإذا هم مبصرون }( الأعراف199 – 201) .
ونبينا
عليه الصلاة والسلام عرض له الشيطان ليقطع صلاته فأمكنه الله منه ، فرده
الله خاسئاً كما في الصحيح ، وأخبر أنه ما منا من أحد إلا وقد وُكِّل به
قرينه من الجن ، حتى هو نفسه - صلى الله عليه وسلم- إلا أن الله أعانه عليه
فأسلم ، على رواية الرفع بمعنى : " أسلم من شره وفتنته " ، وعلى رواية
الفتح بمعنى : " أنه دخل في الإسلام " ، وهما روايتان مشهورتان .
والمقصود أن القرآن والسنة أثبت شيئاً من تعرض الشيطان للأنبياء والمخلصين بأنواع الأذى وأما الزيغ والإضلال فقد عصمهم الله منه .
ولا
يلزم أن تمتلئ الدنيا صراخاً ونحيبا - كما توهم الزمخشري - لأن الحديث
إنما جعل ذلك عند الولادة فحسب ولم يجعله مستمراً مدى الحياة ، والتجربة
والمشاهدة خير حكم وبرهان ، فما من مولود إلا ويستهل صارخاً وباكياً
تصديقاً لهذا الحديث ، وإنكار ذلك مكابرة .
فعلم
من ذلك أنه لا إشكال أبداً حول الحديث لا من حيث النقل والسند ، ولا من
حيث المتن والمعنى ، وأن الإشكال إنما أتى من الفهم السقيم ، والرأي غير
المستقيم .