أيها الناس: اتقوا الله تعالى وخافوه واخشوه وحده ولا تخشوا أحدا
غيره وكما قال الفضيل: من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير
الله لم ينفعه أحد قال تعالى:
فلا تخشوا الناس واخشون ،
فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين عن مقام الخوف من الله عز وجل وسبب اختياري لهذا
الموضوع هو ما أراه وأشاهده من بعد الناس عن الله
وتجرؤهم عليه بأنواع المعاصي والذنوب التي ما ارتكبها
هؤلاء الناس إلا بسبب ضعف جانب الخوف من الله في قلوبهم
وبسبب غفلتهم عن الله ونسيان الدار الآخرة، فالخوف من الله هو
الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة وقلّ أن يثبت غير هذا
الحاجز أمام دفعات الهوى والشهوة والغفلة فالخوف هو الذي
يهيج في القلب نار الخشية التي تدفع الإنسان المسلم إلى
عمل الطاعة والابتعاد عن المعصية.
ولهذا إذا زاد
الإيمان في قلب المؤمن لم يعد يستحضر في قلبه إلا الخوف من الله،
والناس في خوفهم من الله متفاوتون ولهذا كان خوف العلماء في
أعلى الدرجات وذلك لأن خوفهم مقرون بمعرفة الله مما جعل
خوفهم مقرون بالخشية كما قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء
والخشية درجة أعلى وهي أخص من الخوف، فالخوف لعامة
المؤمنين والخشية للعلماء العارفين وعلى قدر العلم
والمعرفة تكون الخشية، كما قال النبي
: ((إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية)) وقال: ((لو
تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما
تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون
إلى الله)) قال الإمام أحمد: هذا يدل على أن كل
من كان بالله أعرف كان منه أخوف. والخوف: هو اضطراب
القلب ووجله من تذكر عقاب الله وناره ووعيده الشديد لمن
عصاه والخائف دائما يلجأ إلى الهرب مما يخافه إلا من يخاف من
الله فإنه يهرب إليه كما قال أبو حفص: الخوف سراج في القلب به
يبصر ما فيه من الخير والشر وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا
الله عز وجل، فإنك إذا خفته هربت إليه. فالخائف هارب من
ربه إلى ربه قال تعالى: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ،
قال أبو سليمان الداراني: ما فارق الخوف قلبا إلا خرب.
وقال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوف القلب أحرق
مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها.
وقال ذو النون:
الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم
الخوف ضلوا الطريق. وقال أبو حفص: الخوف سوط الله، يقّوم به
الشاردين عن بابه.
والخوف المحمود
الصادق: ما حال بين صاحبه ويبن محارم الله عز وجل فإذا
تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط، ولهذا قال شيخ الإسلام
ابن تيميه: الخوف المحمود: هو ما حجزك عن محارم الله وهذا الخوف
من أجلّ منازل السير إلى الله وأنفعها للقلب وهو فرض على كل
أحد.
ومن كان الخوف منه
بهذه المنزلة سوف يحجزه خوفه عن المعاصي والمحرمات فلا يأكل مالا
حراما ولا يشهد زورا، ولا يحلف كاذبا، ولا يخلف وعدا ولا
يخون عهدا ولا يغش في المعاملة ولا يخون شريكه ولا يمشي
بالنميمة، ولا يغتاب الناس ولا يترك النصيحة والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يزني ولا يلوط ولا يتشبه
بالنساء ولا يتشبه بالكفرة أعداء الدين ولا يتعاطى
محرما ولا يشرب المسكرات ولا المخدرات ولا الدخان ولا
الشيشة ولا يهجر مساجد الله ولا يترك الصلاة في الجماعة
ولا يضيع أوقاته في اللهو والغفلة بل تجده يشمر عن ساعد
الجد يستغل وقته كله في طاعة الله ولهذا قال : ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا وإن سلعة الله غالية ألا وإن سلعة الله هي الجنة))
رواه الترمذي وهو حديث حسن والمراد بهذا الحديث
التشمير في الطاعة والاجتهاد من بداية العمر لأن الجنة
غالية تحتاج إلى ثمن باهظ ومن سعى لها وعمل صالحا وسار
من أول الطريق نال بغيته إن شاء الله.
ولهذا كان السلف
الصالح يغلّبون جانب الخوف في حال الصحة والقوة حتى
يزدادوا من طاعة الله ويكثروا من ذكره ويتقربوا إليه
بالنوافل والعمل الصالح.
أيها الإخوة: إن
رجحان جانب الخوف من الله في قلب المؤمن هو وحده الذي
يرجح الكفة وهو وحده الذي يعصم من فتنة هذه الدنيا وبدون
الخوف لا يصلح قلب ولا تصلح حياة ولا تستقيم نفس ولا يهذب سلوك
وإلا فما الذي يحجز النفس البشرية عن ارتكاب المحرمات من زنى
وبغى وظلم وركون إلى الدنيا غير الخوف من الله، وما الذي
يهدئ فيها هيجان الرغائب وسعار الشهوات وجنون المطامع؟
وما الذي يثبت النفس في المعركة بين الحق والباطل وبين
الخير والشر؟ وما الذي يدفع الإنسان إلى تقوى الله في
السر والعلن سوى خوف الله، فلا شيء يثبت الإيمان عند
العبد رغم الأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج
إلا اليقين في الآخرة والإيمان بها والخشية والخوف مما
أعده الله من العذاب المقيم لمن خالف أمره وعصاه. فتذكر
الآخرة في جميع الأحوال والمناسبات والظروف يجعل عند الإنسان حسا
مرهفا يجعله دائم اليقظة جاد العزيمة دائم الفكر فيما يصلحه في
معاشِه ومعادِه كثير الوجل والخوف مما سيؤول إليه في
الآخرة، ففي كتاب الزهد للإمام أحمد عن عبد الرحمن بن
يزيد قال: قلت ليزيد! ما لي أرى عينيك لا تجفّ؟ قال: يا
أخي إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار،
والله لو توعدني أن يسجنني في الحمام لكان حريا أن لا
يجف لي دمع.
وروى ضمرة عن حفص بن
عمر قال: بكى الحسن البصري فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن
يطرحني في النار غدا ولا يبالي. ولهذا من خاف واشتد وجله من
ربه في هذه الدنيا يأمن يوم الفزع الأكبر فعن أبي هريرة
عن النبي فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال:
((وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين: إذا خافني في
الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته
يوم القيامة)) رواه أبن حبان في صحيحه. أيها الأخوة: لقد
عاش المسلمون الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة عاشوا مشاهد الآخرة
فعلا وواقعا كأنهم يرونها حقيقة ولم يكن في نفوسهم استبعاد
لذلك اليوم بل كان يقينهم بذلك اليوم واقعا تشهده
قلوبهم وتحسّه وتراه وتتأثر وترتعش وتستجيب لمرآه ومن
ثم تحولت نفوسهم ذلك التحول وتكيفت حياتهم على هذه
الأرض بطاعة الله وكأن النار إنما خلقت لهم قال يزيد بن
حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن
النار لم تخلق إلا لهما. وحق لهما أيها الإخوة ولكل
مؤمن أن يخاف من النار وأن يستعيذ بالله منها لأن الخبر ليس
كالمعاينة يقول : ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد)) رواه مسلم وقال في وصف النار محذرا منها: ((نار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار جهنم))
ولهذا كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم إذا رأى
أحدهم نارا اضطرب وتغير حاله فهذا عبد الله بن مسعود
مر على الذين ينفخون على الكير فسقط مغشيا عليه وهذا
الربيع بن خثيم رحمه الله مر بالحداد فنظر إلى الكير
فخر مغشيا عليه، وكان عمر بن الخطاب
ربما توقد له نار ثم يدني يديه منها ويقول: (يا ابن
الخطاب هل لك صبر على هذا). وكان الأحنف رضي الله عنه:
يجئ إلى المصباح بالليل فيضع إصبعه فيه ثم يقول: (حس،
حس ثم يقول يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا وكذا
يحاسب نفسه) وفي الحديث: ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم)). أيها الاخوة :إن
أمر القيامة أمر عظيم رهيب، يرجّ القلب ويرعب الحس
رعبا مشاهده يرجف لها القلوب والله سبحانه أقسم على وقوع
هذا الحادث لا محالة فقال في سورة الطور
إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع فهو
واقع حتما، لا يملك دفعه أحد أبدا والأمر داهم قاصم
ليس منه دافع ولا عاصم كما أن دون غد الليلة، فما
أعددنا لذلك اليوم، وما قدمنا له وهل جلس كل منا يحاسب
نفسه ما عمل بكذا وما أراد بكذا بل الكل ساهٍ لاه،
والكل في سكرته يعمهون ويلعبون ويضحكون ويفسقون ويفجرون
وكأن أحدهم بمنأى من العذاب وكأنهم ليس وراءهم موتا ولا
نشورا ولا جنة ولا نارا
ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين يقول الحسن البصري رحمه الله: (إن المؤمن والله ما
تراه إلا يلوم نفسه ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي ما
أردت بحديثي، وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاقب نفسه).
فحقيق بالمرء أن يكون له مجالس يخلو فيها يحاسب نفسه
ويتذكر ذنوبه ويستغفر منها.
أيها الأحبة:
لقد كان المسلمون يعيشون مع القرآن فعلا وواقعا عاشوا
مع الآخرة واقعا محسوسا، لقد كانوا يشعرون بالقرآن ينقل
إليهم صوت النار وهي تسري وتحرق وإنه لصوت تقشعر منه القلوب
والأبدان كما أحس عليه الصلاة والسلام برهبة هذا الأمر وقوته حتى
أنه وعظ أصحابه يوما فقال:
((إني أرى
ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطّت السماء وحق لها أن
تئط ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله
عز وجل، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم
كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى
الصعدات تجأرون إلى الله والله لوددت أني شجرة تعضد)) رواه البخاري وفي رواية قال:
((عرضت علي الجنة والنار فلم أرى كاليوم في الخير والشر)) ثم ذكر الحديث فما أتى على أصحاب رسول الله
يوم أشد منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين و الخنين هو البكاء
مع غنّه، ولطول المطلع وشدة الحساب وتمكن العلم
والمعرفة لدى رسول الله
تمنى أن يكون شجرة تقطع وينتهي أمرها فكيف بنا نحن؟
عجبا لنا نتمنى على الله الأماني مع استهتارنا بالدين
وبالصلاة وبكل شيء فماذا نرجو في الآخرة؟ وكما قيل:
يـا آمنـا مـع قبـح الفعـل منـه هل أتاك توقيـع أمـن أنت تملكه جمـعت شيئيـن أمنـا و اتبـاع هـوى
هذا وإحداهما في المرء تهلكه والمحسنون على درب الخوف قد ساروا و ذلـك درب لسـت تسلـكه فرطـت في الـزرع وقت البذر من سفه فكيف عند حصاد الناس تدركه هذا وأعـجب شيء فيـك زهـدك فـي دار البقاء بعيش سوف تتركه