أراد سبحانه وتعالى - وهو أعلم بالأصلح لعباده - أن يجعل دين الإسلام
خاتمة الأديان السماوية، وأن يجعل دستور الإسلام - وهو القرآن - خاتمة
الكتب السماوية، وأن يجعل رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل
والأنبياء، عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم .
ومع ذلك، فإن
كثيراً من الذين لم يعرفوا طريقهم إلى الإسلام بعد، ولا يزالون يتخبطون في
ظلمات الجهل، ويرتعون في مرابع الغي والضلال، نقول: ما زال هؤلاء يأبون أن
يُقرِّوا بحقيقة الإسلام، وحقيقة القرآن، وحقيقة رسول الإسلام صلى الله
عليه وسلم، ليس هذا فحسب، بل إنهم يسعون بين الحين والآخر إلى التشكيك بهذا
الدين، وإثارة الشبهات حوله، لصدِّ المؤمنين عن دينهم، ولثني عزم من
تلمَّس طريق الهداية والرشاد، وميَّز طريق الحق من الضلال .
ولقد
تعرض دين الإسلام عمومًا، والقرآن الكريم ورسول الإسلام الأمين خصوصاًَ
للعديد من الشبهات والأقاويل الباطلة، التي - وبعد التحقيق والتمحيص - قد
ظهر زيفها وبطلانها، وبقي دين الإسلام عبر العصور والأزمان شامخاً أبيِّاً
مؤيداً بتأييد الله، ومحفوظاً بحفظه سبحانه، تصديقاً وتحقيقاً لقوله تعالى:
{ ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } (التوبة: 32) .
ومن
الشبه - القديمة الحديثة - التي أثيرت حول هذا الدين، شبهة تقول: إن
محمدًا صلى الله عليه وسلم جاء بهذا القرآن من عنده، ولم يوحَ إليه به من
الله سبحانه وتعالى !!!
وقد سبق لأهل مكة أن أثاروا هذه الشبهة منذ فجر دعوة الإسلام، ونقل القرآن الكريم شبهتهم تلك، فقال على لسانهم: { وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا }
(الفرقان:5) وقد عُلِمَ بالتواتر والضرورة أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن
يكتب شيئاًَ في حياته، لا في أول عمره ولا في آخره؛ وقد نشأ صلى الله عليه
وسلم منذ مولده إلى بعثته بين أظهرهم، وهم يعرفون مدخله ومخرجه، وصدقه
وبره، وأمانته ونزاهته عن الكذب وسائر الأخلاق الذميمة، بل إنهم - ولِمَا
هو عليه من هذه الصفات - سمَّوه الأمين؛ لِمَا يعلمون من صدقه ونزاهته،
فكيف يستقيم أمر هذه الشبهة - والأمر على ما ذكرنا - لذلك وجدنا القرآن
الكريم يدحض دعواهم تلك، ويرد عليهم تلك الفرية، فيقول: { قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض } (الفرقان:6) أي: إن هذا القرآن أنزله الذي اتصف بما لم يتصف به أحد من خلقه .
ثم
إن من المقرر عند علماء اللغة والبيان أن الرجل هو الأسلوب، وأن الأسلوب
هو الرجل؛ ومقتضى هذا، أنه بالمقارنة بين أسلوب القرآن الكريم وأسلوب السنة
النبوية نجد فرقاً واضحاً وملموساً بين كلا الأسلوبين، بحيث لا يسع أي
منصف أن يساويَ بينهما، فإذا ما وضح هذا فكيف يصحُّ القول: إن هذا القرآن
من تأليف محمدٍ، كما يدَّعي ذلك من لا خلاق لهم من المشركين قديماً
وحديثًا...إن هذا لشيء عُجاب .
ثم يقال أيضًا: لو جاز أن يكون هذا
القرآن من وَضْعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم لجاز لغيره ممن عاصروه - وهم
على ما هم عليه من البلاغة والبيان وامتلاكهم لناصية اللغة - أقول: لو كان
ذلك كذلك لجاز لأولئك القوم - أو على الأقل لبعضهم - أن يأتيَ بمثل هذا
القرآن، وواقع الحال والمآل أنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، بل لن
يستطيعوا لهذا الأمر ولو اجتمعت له جموع الأرض والسماء...!!
ومما يدحض هذه الشبهة - القديمة الجديدة - وينقضها من أساسها، ما ثبت في " الصحيحين " عن عائشة و أنس رضي الله عنهما أنهما قالا: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أنزل عليه لكتم هذه الآية، أي قوله تعالى: { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه .. }
(الأحزاب:37) ووجه الاستدلال في هذا الحديث: أن القرآن الكريم لو كان من
تأليف محمد صلى الله عليه وسلم لما استقام عقلاً ولا واقعاً أن تكون فيه
هذه الآية...إذ ليس من معتاد البشر ولا من طبيعتهم أن يذكروا من الأمور ما
لا يحبون إطلاع الناس عليه... وهذا دليل على كون هذا القرآن ليس من وضع
محمد رسول الله، وإنما هو وحي نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله صلى
الله عليه وسلم. والآيات في هذا المعنى كثيرة نقتصر منها في هذا المقام على
قوله تعالى: { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد.. } (الكهف:110) .
وبما
تقدم يظهر، أن القرآن الكريم إنما كان وحيًا أوحاه الله على عبده ورسوله
محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هذا القرآن بحال من الأحوال، من تأليف
محمد ولا من وضعه، إذ الأدلة والواقع ينفيان القول بذلك أشد النفي،
وبالتالي يدحضان كل قول يقول بخلافهما. وصدق الله إذ يقول في تقرير هذه
الحقيقة: { وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين } (الشعراء:192-194) .